01 فبراير 2008

المنطلقات الفلسفية 2

دائماً ما كان جدي رحمه الله –وهو صوفي شاذلي- يهمس في أذني "اعرف مكنونك، تعرف ما دونك"، لم أكن أعي مراده من هذه الكلمات إلا أنها بقيت جرساً يرن في أذني بصوته المرتجف، حتى بلغت السن التي وعيت بها أسرار كلمته، فمعرفة حقيقة ذاتك وطبيعتها (العقلية والروحية) هي التي تعكس رؤيتك لما دونك من العوالم والمكونات، وتفسر سننها ومظاهرها، فاعتمدت لنفسي منطلقات فلسفية، وأعني بها تلك المرتكزات التي أبني عليها تحليلي ونظري وفهمي للأمور من حيث علاقتها بالكل، وخلاصتها ما يلي:
- أبدأ من الفكرة، فأوجدها في ذهني ثم أنزل بها من عالم الأفكار لأدلل عليها من الظواهر والتطبيقات، فإن صح دليلها، رسخّت الفكرة واقتنعت بها، وهو مبدأ أفلاطوني بخلاف المبدأ الأرسطي الذي يرتقي من الظاهرة ليصل بها إلى الفكرة.
- أؤمن بأن الحقيقة واحدة، والحق لا يتعدد قط، فكما أن الحيز الواحد من الفراغ تتنازعه أجسام كثيرة، ولكن لا يشغله جسمان في زمان واحد في عالم الماديات، فكذا عالم الأفكار الموضوع الواحد تتنازعه أفكار كثيرة ولكن الحق منها واحد؛ ولأن الكون يأخذ صبغته من مكونه، "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
- كل حقيقة وفكرة، لا أرتقي إلى الاقتناع والتسليم بها، إلا على سلم الشك، فالشك أول درجات اليقين، "نحن أولى بالشك من إبراهيم".
- شككت في الموروثات الذهنية، فلم يصحّ لدي سوى المسلمات العقلية الأولية، فهي ما أدرس بها الأمور في مرحلة ما بعد الشك، أما غير المسلمات الأولية فلا أعول عليها إلا إذا بنيت على سلسلة من يقينيات متتابعة مختومة بمسَلم أولي.
شطط: يسألني سائل لم لا تشك في هذه المسلمات الأولية؟ فأجيبه بأني قد شككت بها في يفوعتي، ودخلت في دهليز لا أدري نهايته، حتى أدركت أن الشك فيها يوصلك إلى "الخبل"، لذا يقال بين العبقرية والجنون شعرة، هي هذه، فالشك بها انفكاك وخروج عن الطبيعة العقلية التي جبل المكون بها العقل.
- أحاول غالباً تفسير المجردات المعرفية "كالعدالة والجمال والحرية والثقافة.."، وأقبح سردها من غير بيان المقصود منها، مما يجعل المجادلات حولها عقيمة لعدم وضوح الحد، ولغموض التصور.
- يتولد من المقدمات اليقينية الصحيحة معرفة بالنواميس والسنن الكبرى التي تحكم عالم الأفكار والأشياء، أبحث عنها وأنظر بها، حتى تبدو لي الأفكار والأشياء مركباً معرفياً يتفاعل مع وعيي وإدراكي، مثلاً: أقرأ معلقة "ابن أبي سلمى" فلا أبصر بها فصاحة بيانه وبلاغة كلمته فقط، وأشاهد (فيلماً) أمريكياً فلا أرى (دراميته) أو (كوميديته) فحسب، بل أبصر كذلك ثقافة مجتمع، وأنماط أخلاق، ونتاج بيئة.
- تتولد الفكرة في ذهني فإما أن تنحى إلى الواقعية أو المثالية، وأنا إلى المثالية أقرب وإن كنت أحبذ المثالية أحياناً -ما دامت في حيز الإمكان-، فكم أوحت مدينة "أفلاطون" الموغلة في المثالية من أفكار واقعية، فما هو مستحيل في العرف اليوم، ممكن غداً، واقع بعده.
- أعتقد أنه لا قيمة للتعاميم الفكرية المجردة إذا لم نقم بتجربتها في عالم الوجود، لنعلم صلاحيتها، فليترجل الحكيم من صهوة جواده إلى ساحة التجربة، بذاته أم بغيره.
- وبعد اقتناعي بفكرة ما، تصير حقيقة ذهنية الصواب فيها غالب، قابلة للمجادلة، فالحقائق المعرفية سرعان ما تُفجأ بنواقض تحيلها من الحق إلى البطلان، ومن الصواب إلى الخطأ، كوهم في التصور، أو خلل في المقدمة، أو استقراء ناقص، أو قياس وفرق.

هذه خلاصة المنطلقات الفلسفية التي أدرج عليها، وأفسر وأحلل بها، والحمد للحق والعزة له.

28 يناير 2008

المنطلقات الفلسفية 1

لابد لكل بناء من أس صلب يقوم عليه، وكذا البناء الفكري والعقلي، إن لم يرسخ على كتلة ذاتية قوية، وأس صلب متكامل، تهلهل البناء وتهادى، لذلك تجد غالب المتصدرين من أصحاب الحنجرة والقلم مصابون بداء "هشاشة البناء الفكري"، لانعدام المنطلقات الفلسفية التي يطاولون عليها بناءهم، لذلك ينبعث إنتاجهم من "اِلتوى" لا "لواه"، وتظهر فيهم "العشوائية" مكان "التكاملية"، و"السطحية" بدل "التحليلية".
أضرب مثالاً على ما أقوله: لما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على العراق، لم أجد إلا انفعالاً شجباً وشتماً وإعلاناً للجهاد!! -ضحكاً على الذقون-، أما من خزر ونظر فقليل بل نادر، فمثلاً لكوني -في ذاك الوقت- برجماتياً قديماً استبشرت بهذا الإعلان، إذ أن من السنن الاجتماعية أن العرب يثورون على العدو والظالم الأجنبي، ولا يثورون على الظالم والعدو الذي من جلدتهم، ولعل الثاني أظلم وأطغى، وهذه الثورة ستنهض العراق وتعيد بغداد الرشيد، إذاً هذا ما نبغيه فاستبشرت، أما الدماء المسكوبة فهي ذاتها قبلاً، بل هي اليوم أزكى لأنها في سبيل كرامة لا خنوع.
لا تنظر إلى المثال وتناقشه، بل انظر إلى المقصود وهو أن الحكم انبثق من أصول فلسفية تضبط الفكر والرأي "فعلاً" لا "انفعالاً"، وتبعده عن التناقض.
وإن تعجب فاعجب من ذلك العالم الذي رجح قول ابن تيمية ورد قول الجمهور في مسألة ما، وقال في ترجيحه: "وقول الجمهور مبني على المصلحة المعارضة للنص، فيترجح قول شيخ الإسلام لتمسكه بالنص، ولا اجتهاد مع النص"، ثم أعقب بمسألة ثانية في نفس المجلس، ورجح قول ابن تيمية ورد قول الجمهور، وقال: "والراجح قول شيخ الإسلام؛ لأنه مبني على المصلحة، وأحكام الله مبينة على مصلحة العباد"، وتغافل عن النص الذي اعتمده الجمهور!!، فهذا التناقض الفكري وجد لفقدانه المنطلقات الأصولية الفلسفية، فتارة تجده ظاهرياً لا يتعدى النص، وتارة طوفياً مصلحياً، وهذا التناقض مبني على أصل واحد هو التعصب والتقديس لشيخ الإسلام.
وبعدما أوضحته من أهمية المنطلقات الفلسفية لدى الباحث والمثقف، أبين لكم المنطلقات الفلسفية، التي أبني وبنيت أفكاري عليها –إن شاء ذو العدل والحكمة-.